دخل راشد المقهى وعلى وجهه ابتسامة خفيّة. نظر يمينا ثم شمالا، ثم رفع رأسه بإشارة سريعة وتوجه بين الطاولات إلى طاولة سكنت بجانب النافذة في احدى الزوايا الهادئة.
صافح زميله معاذ، وجلس على الكرسي مسترخي الكتفين. التفت إلى اليمين، فاتسعت عيناه وفتح فمه. أغلق فمه بسرعة ونظر إلى قائمة الأطعمة والمشروبات. أشار بإحدى يديه نحو شراب «حار وبارد» في الوقت نفسه، فقام معاذ لإحضار شراب لهما.
التفت مرة أخرى إلى اليمين، فنظرت إليه إحدى الفتيات بتأمل.. نظرة ثاقبة، حاجب مرفوع والآخر منسدل، ابتسامة جانبية تكاد لا ترى بسهولة. ابتسم ابتسامة واضحة أظهرت جزءا من أسنانه، فأشاحت بوجهها ونظرت إلى زميلتها بانفعال صامت، ثم أعادت النظر إليه بتفحص من الأسفل إلى الأعلى والعكس أيضا.
ارتبك واعتدل في جلسته وحرك ياقته بصورة تشير إلى توتره، فأعادت النظر إلى زميلتها بابتسامة خفيّة خبيثة.
جاء معاذ ومعه شرابين لذيذين، وضع أحدهما أمام راشد والآخر امامه. علا صوت ضحك أحدهم في المقهى، فالتفت الجميع نحوه في تساؤل واستنكار، ثم عادت رؤوس الجميع مرة أخرى إلى مواضعها.
تنحنح راشد بصوت مسموع، فالتفتت الفتاة ونظرت إليه، وابتسمت ابتسامة عريضة وأشاحت بوجهها مرة أخرى. نظر راشد إلى زميله معاذ، وأشار إليه برأسه وأحد حاجبيه ليلاحظ تلك الفتاة معه، فنظر معاذ بعفوية إلى الفتاتين ونظرة أخرى إلى راشد، وعيناه باردتان جدا.
شرب راشد قهوته بهدوء كأنه يفكر بعمق، بينما بقي معاذ يلتفت يمينا وشمالا كأنه يحاول فهم حقيقة خفيّة. فجأة سمع راشد ضحكة الفتاة عالية فالتفت إليها، فنظرت إليه وهي تضع شوكة تحمل قطعة كعك في فمها، ونظرة غامضة ناطقة تتوجه إليه شخصيا.
ازداد توتر راشد فبدأ ينظر إلى الساعة بتمعن، ثم أعاد النظر إلى الفتاة، فوجدها تنظر إليه بخباثة وتشير إلى هاتفها بأظافرها المطلية باللون الأسود، ففهم ما ترمي إليه وقام بفتح «البلوتوث». وهنا فهم معاذ كل الحكاية وقام يهز رأسه بخبث وهو ينظر إلى راشد.
أرسل راشد إلى الفتاة رسالة قصيرة، بعد أن عرف أنها هي المدعوة «قطة المقهى» كما أسمت نفسها في «البلوتوث»، كانت رسالته تقول: «لا تزال جدتي تلح علي أن أتزوج، ومازلت أرد عليها بأنني لم أجد الفتاة التي تستحقني بعد. ظنت جدتي بأنني مغرور، وأريد الزواج بملكة جمال الكون. أما بعد أن وجدت ملكة جمال الكون ماثلة أمامي، فسأذهب إلى جدتي وأخبرها أنني وجدت ما أبحث عنه تماما وقد اكتشفته للتو، إنه الحياء المفقود.. أريد امرأة تخجل عندما ينظر إليها رجل، وترحل عندما يحتقرها رجل».
هنا احمر وجه الفتاة غضبا، وامتلأت وجنتاها بالدم، كأنهما تورمتا، وقفزت من مكانها مشيرة إلى زميلتها بضرورة الانصراف في الحال. نظرت إلى معاذ وابتسمت وقالت: كم من المهر تستحق المرأة الخجولة في عصرنا هذا؟
فقال معاذ ضاحكا: مهرا غاليا يصعب على أمثالنا تقديمه، فضحكت الشابتان وانصرفتا.
وبقي راشد مكانه يحمل ذلك الحوار في ذاكرة الزمن، ويقارن بينه وبين حوارات اخرى عديدة تجري في المكان عينه، فيبكي الزمن أسفا على حال الكثيرين، ويستبشر بزيارات أفضل وحوارات أجمل على طاولة الشابين المحترمين نفسها، راشد ومعاذ.
النسخة المنشورة في جريدة القبس :
http://www.alqabas.com.kw/Article.aspx?id=592953&date=08042010
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق