لكل منا مرحلة طفولة ذهبت ولن تعود ، وبالرغم من استحالة عودتها مجددا إلا أنها تركت في أنفسنا أبلغ أثر ، وختمت على أدمغتنا بنظام محدد لأسلوب التعامل مع كل ما يحيط بنا ، فلا يمكن أن تكون طفولة السفاح الذي يتعامل مع الآخرين بلغة الدم مليئة بالسكينة والموعظة والوعي . فهذا النمط المهيأ لارتكاب الجرائم البشعة لابد وأنه مر في طفولته بما هشم جميع مفاهيم المحبة والعدالة والإيثار في نفسه .. بل لابد أن يكون هنالك ثمة ما زرع في قلبه الدافع نحو طريق ارتكاب الجرائم بحق الآخرين دون أي مقدار يذكر من مشاعر الندم أو الحزن والاكتئاب ! .. وبالرغم من أن الأمور التي يتعرض لها الطفل خارجة عن سيطرته وتقوم بإرغامه على معايشتها ، إلا أن الطفل حين يكبر ويصبح واعيا لحقائق الأمور فإنه قد أصبح مكلف بتغيير نفسه والتجرد من جميع خبراته السلبية واستبدالها بأخرى إيجابية !! إن هذا الكلام سهل وتفاؤلي إلى حد كبير ، ولكن الواقع يقول غير ذلك . فمن أصعب الأمور أن تأتي بشخص قد تعلم في طفولته دروسا من قبل المحيطين به بفنون ومهارات السرقة ، وقام فعليا بمزاولة هذه المهنه حتى اعتاد عليها ، ثم ها هو نفس الإنسان وقد كبر وأصبح رجلا شريفا ومحترما وبعيدا عن استسهال السرقة أو الميل إليها ! وقد ذكر في الأمثال أن "من شب على شيء شاب عليه" مع قليل من المبالغة واليأس .. ولعله ليس من الضروري أن تنقل ما عايشته في مرحلة شبابك إلى المراحل الأخرى التي تليها ، ولكنني أتحدث عن دور الطفولة في صقل الأخلاق والإستراتيجيات الخاصة في التعامل مع المحيطين ومع المشكلات والضغوط ، فالطفولة تبرمج أساليب تفاعلنا مع البيئة وما تحتويه من أشياء وأشخاص تماما كما يحدث مع الحاسوب ، فهو مبرمج على أساسيات لا يمكنه أن يعمل من دونها . ومن هنا جاءت أهمية التربية على الدين والأخلاق الحميدة كوقاية لمجتمع كامل من الضياع . فكيف يمكن أن نحيي في أبناءنا حب الخير و الأخلاقيات الإسلامية الحميدة ، وننفرهم من الأنانية والحقد والكذب والبخل والجبن والطمع وسائر الصفات الذميمة .. كيف نقوم بدور فاعل وأن لا نمسي مقصرين بحقهم ، وأن نؤدي أمانتنا كآباء بأفضل صورة ممكنة ، فلو كان الإنسان يولد ومعه بذرة محددة للخير أو الشر لما أوصانا ديننا الحنيف بأن نحسن تربية أبناءنا ، وأن نهتم بتعليمهم الدين والأخلاق منذ نعومة إظفارهم .. وأن لا نعتبرهم كالحيوانات الأليفة التي نقوم بتربيتها عن طريق إطعامها وتوفير المكان المناسب لها حتى نستأنس بها فحسب ! بل يجب أن نعتبر أبناؤنا أمانة في رقابنا ، وأن نغرس فيهم مفاتيح الخير والاستقامة والصلاح .. وأن نعلمهم كل صفة من الممكن أن يتحلى بها إنسان صالح فيصبح كالألماس ، ذو قيمة وأهمية بحد ذاته .. وأن ننفرهم من كل صفة من الممكن أن تقلل من شأن الإنسان وتجعله وضيعا مذموما وقبيح الجوهر .. ولعلنا إن أخلصنا النية بهذا العمل لله سبحانه وتعالى ، أن يبارك لنا في ذرياتنا ، وأن يجعلهم لنا قرة أعين .. ولربما لم أتمكن من الحديث عن مسببات "التشرد النفسي الطفولي" وذلك لأنها كثيرة ومن الصعب حصرها . ولكن كل أبوين باستطاعتهما التمييز بين ما يسمى "عناية" وبين ما هو "إهمال" ، ومن خلال الحرص على الاعتناء بكل ما يختص بشئون فلذات أكبادنا والحرص من جانب آخر على تجنب إهمال تلك الشئون ، سنجد أننا حققنا انجازا عظيما في صنع إنسان سوي هو في حد ذاته ثروة لا تقدر بثمن ، ويجب أن تشمل العناية بالأطفال كل من الجانب الصحي والنفسي والديني والتعليمي والاجتماعي والأسري .. فالأبناء أمانة في رقابنا حتى نموت ، ولا شيء يستطيع أن يكفر ذنب إهمالهم أو إساءة تربيتهم ومعاملتهم .. فأبناؤنا هم أكبادنا التي تمشي على الأرض ، لا بل هم أجمل وأغلى وأثمن من ذلك بكثير .
منشور في جريدة الكويتية الإخبارية :
http://www.alkuwaitiah.com/ArticleDetail.aspx?id=4092
منشور في جريدة الكويتية الإخبارية :
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق