كان الدكتور عماد يجري في ممر المستشفى متوجها لإجراء عملية طارئة لأحد مرضاه ، وبينما كان في قمة انهماكه في الجري امسك بإحدى يديه رجل . نظر الدكتور عماد إلى الرجل بغضب وقال له باستنكار : لماذا تمسك بيدي .. من أنت ؟ فقال له الرجل : أنا لست من هذا العالم . فأجابه الدكتورعلى عجالة : هل تعلم أن لدي مريض على وشك أن يموت ؟ إن كنت تعاني من خطب ما فكلم شخصا آخر ليساعدك ، وهنا حاول الدكتور أن يتابع جريه ولكن يد الرجل الغامض كانت قوية بما فيه الكفاية لإبقائه في نفس مكانه بالضبط . هنا استشاط الدكتورعماد غضبا وقال للرجل : اتركني وإلا ابلغت الشرطة . وبعد هذه الجملة بالذات عم سكون رهيب في جميع أروقة المستشفى ، فلا حركة هناك إطلاقا . شعر الدكتور بسكون تام ودب الرعب الغريب في قلبه ، بعدها ترك الرجل يد الدكتور وظل واقفا ينظر إليه بعينيه الرماديتيت المائلتين للزرقة ، نظر الدكتور عماد إلى عيني الرجل لثوان ثم انطلق في طريقه إلى غرفة العمليات ، وما إن وصل إلى الغرفة حتى هاله خلاء المكان من أي شخص كان ، ظل الدكتور يجري في جميع أروقة المستشفى باحثا عن الآخرين ولكنه لم يعثر على أي شخص آخر ، عاد جريا إلى حيث التقى بالرجل الغامض فإذا بالرجل واقفا في نفس مكانه لم يتحرك شبرا ، وعينيه تنظر إلى عيني الدكتور بغموض قاتل ، إن وجه هذا الرجل خال من التعبير تماما ، وقف الدكتور أمام الرجل الغامض بخوف وقال له : بالله عليك ما الذي يجري هنا ، أين اختفى الجميع ؟ لا يوجد أحد هنا غيرنا أنا وأنت ! فرد الرجل : لم آتي إلى هنا لأجيب عن تساؤلاتك ، ولكن لتجيب أنت . صمت الدكتور عماد قليلا ثم قال : اسأل ما شئت .. ولكن اخبرني على الأقل ما اسمك ؟ فقال الرجل : اسمي صفير . اقشعر جسد الدكتور عماد وقال لصفير : تفضل واسأل ما تشاء .. قال صفير : هل تتبع في اتخاذ قراراتك العقل أم القلب ؟ فقال الدكتور : عقلي بالطبع . فقال له صفير : إجابة خاطئة ، إننا جميعا نقول هذا الكذب ولكننا في الحقيقة نتبع مشاعرنا البحته ، فقال له الدكتور : لماذا تقول ذلك ؟ هل أزعجك مني أمر ما ؟ فقال له صفير : عندما كنا صغار حديثي الولادة كنا نتبع مشاعرنا والتي هي جزء لا يتجزأ من غرائزنا ، فنأكل ونشرب ونبكي ونلعب بناء على مشاعرنا المطلقة ، ولكن عندما كبرنا ونشطت قدراتنا العقلية الاستكشافيه فأصبحنا نظن بأننا أناس منطقيون وعقلانيون ، لا تحركنا أهواءنا كما يفعل الصغار ، ولكن الواقع هو عكس ذلك تماما ، فمثلا ، عندما نختار الدين الذي نريد أن نؤمن به ، فإننا نختاره إما لأننا نشأنا عليه ، أو لأننا أحببناه ، أو لأننا شعرنا أنه دين صحيح ، فالأمر كله خليط من المشاعر ، وعندما نفكر في الاقتران بإمرأه فإننا نختارها إما انجذابا لظاهرها ، أو حبا فيما تملك من نفوذ وجاه ، أو إرضاء لآبائنا ، وهي أيضا مشاعر ، وحتى عندما نستعد لخوض حرب مع عدو لنا فإننا نحارب إما لنشعر بالنصر ، أو لنحمي أنفسنا خوفا منه ، أو في سبيل أمر آخر نشعر بأننا نريد أن نضحي بأنفسنا من أجله كالتضحية في سبيل الله ، فهي مبنية على مشاعرنا نحو الله سبحانه وتعالى ، فمتى إذا يمكننا أن نكون عقلانيين كما هو التعقل بالمفهوم الحديث أيها الدكتور عماد ، فلا يجب أن نقول كلمة عقلانيين ، وإنما كلمة "انسانيين " أي أننا نتصرف بناء على قدرتنا الإنسانية على الإختيار ، ولكن النية الحقيقية من وراء اختيار تصرفاتنا والدافع الرئيسي لها هو في الحقيقة شعور . (في هذه الأثناء كان الدكتور عماد ينظر إلى صفير بدهشة وذهول) ، وهنا سأله صفير : من المريض الذي كنت تنوي مباشرته ؟ فأجابه الدكتور : إنه شخص عزيز على قلبي جدا ، فقال له صفير : وهل يصح أن تجري في أروقة المستشفى من أجل الأحباء وتهرول من أجل الأصدقاء ، بينما تتباطأ أو تزحف من أجل العوام . طأطا الدكتورعماد رأسه ثم مسح دمعة ترقرقت في عينيه وقال لصفير : هذا أمر جاء من دون قصد ، فأجابه صفير : كان يجب عليك أن تكون "انسانيا" وأن تختار إما العدالة للجميع أو الظلم مع سبق الإصرار والترصد ، فلا مكان للعشوائية يا دكتور . كان عليك أن تسخر قدراتك الإنسانية بالخير وتصلح قلبك قبل أن تصلح قلب صديقك العزيز . فأجابه الدكتور عماد : أنا حقا ممتن لك يا صفير ، ولكن من أنت بالضبط ، وكيف توقفت الحياة فجأة في المستشفى عند مجيئك ؟ ابتسم صفير لأول مرة بوجه الدكتور وسار بهدوء في الاتجاه الآخر ثم اختفى فجأه لتعود الحركة في المستشفى كما كانت تماما قبل مجيئه ، صخب ومرضى وأطباء ، نظر الدكتور عماد في كل اتجاه لعله يلمح صفير ، ولكنه كان متأكدا حينها أن صفير ليس من عالمه إطلاقا ، واستدار الدكتور ليذهب إلى غرفة العمليات التي كانت بانتظاره قبل مجئ صفير ، ولكنه لم يكن يجري ، بل كان يسير كما كان يفعل دائما مع جميع المرضى الآخرين . دخل غرفة العمليات ، وابتسم بوجه الممرضين وقال لهم : هل لدينا مريض اسمه صفير ؟ فنظر الممرضين إلى بعضهم البعض باندهاش ، فاستعجلهم قائلا بحرج : لا تكترثوا ، حسنا ، لنبدأ العمل ، أين الأدوات ..
منشور في جريدة الكويتية الإخبارية ورقيا فقط
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق